من أنا

صورتي
أناس تنفسوا الطين عشقا ’ ذابوا من مغازلته غربا وشرقا ’ بلمسات أناملهم أنطقوا الطين نطقا ’ من كثر شوقي لهم يخفق القلب خفقا

29‏/11‏/2008

سلسلة عشاق الخزف : شيخ الخزافين سعيد الصدر

سعيد حامد الصدر





أحياه - الخزف - بعد ثلاثة قرون من التجاهل

سعيد الصدر أبو الخزف الحديث

القاهرة د. أحمد الأبحر:


كان فن الخزف العربي من مباهج أوروبا في القرون الوسطى، وشهدت مصر الفاطمية وبلاد الرافدين مرحلة ازدهار هذا الفن، طار صيتها إلى كل هواة التحف في العالم، أعطت لفن الخزف تكوينات جديدة مستلهمة من الأواني الإسلامية، وأضافت لونا جديدا من الزخرفة في التوريق وصور الحيوان والنبات، وحيوية النغمات التي يبعثها الخط العربي على هذه الأواني.فوق هذا أضافت لصناعة الخزف اكتشافا جديدا يسمى “الخزف ذو البريق المعدني” الذي وفر على أوروبا استخدام الذهب والفضة في تلوين الأواني الخزفية، وأعطى حرية واسعة للفنان في تعدد الدرجات اللونية.ومن هذا الينبوع الغزير استلهم الفنان سعيد الصدر تجاربه الأولى ليبعث الحياة مرة أخرى في هذا التراث بعد أن أعطاه عذوبة الشكل وخلصه من بدائية الصنعة وغلظة الأشكال، ووضع تجربته هذه في مئات الأواني البديعة التي شهدتها معارض مصر والعالم طوال خمسين عاما، سجل فيها هذه الاكتشافات في كتب ودراسات كثيرة استفاد منها تلامذته ومريدوه.وسعيد الصدر مصور فوتوغرافي، ومصور بالألوان المائية، ونحات، وعازف كمان، وكاتب ولكن اسمه سيظل في دوائر المعارف وقواميس الفن مرتبطا بفن الآنية الخزفية المصرية الحديثة.وهذا الفن ارتبط به اسم سعيد الصدر، في مصر منذ سنة 1931 على وجه التحديد، حينما عاد من لندن ليسهم في حركة الإحياء الفني الكبرى التي بدأها محمود مختار قبل ذلك، عاد الصدر ليوقظ فن الخزف المصري من سبات يرجع إلى عدة قرون .


بداية الطريق

تبدأ قصة الفن مع سعيد الصدر منذ أيام الطفولة، فقد ولد في الثالث عشر من يناير سنة 1909 في منزل بحي الجمالية بالقاهرة، بين أسرة من أصول شامية، فجده لوالدته سوري من حلب، وجده لوالده، من طولكرم.وفي أزقة حي الأزهر والحسين شب “سعيد الصدر” محاطا بمظاهر الاحتفالات الدينية والآثار الإسلامية والمقاهي والمحلات الشعبية التي تتفجر بالحيوية والأصالة في ذلك الحي العريق، وفي سن الثامنة تعلم هواية التصوير الفوتوغرافي من والده (اللعبة الجديدة في هذه الأيام التي اجتذبت الكثير من المثقفين)، كما تعلم من المصور يوسف كامل “صديق والده” أصول الرسم بألوان “الباستيل”، مما دفع والده لتعليق إحدى لوحاته على الجدار بعد أن نالت إعجابه.كان حامد أفندي الصدر، والد سعيد محبا للأطفال بوجه عام فقد أنجب ثمانية: خمسة ذكور وثلاث إناث، ويحمل الطفل سعيد الترتيب الثاني في هذه السلسلة. وكان حامد أفندي رقيقا مهذبا متفتح الذهن، يوجه أولاده جميعا إلى التعليم فليس بينهم من لم يصل بدراسته إلى منتهاها في وقت لم يكن فيه الاهتمام بالتعليم قد بلغ هذه الدرجة التي نراها اليوم.وبعد أن انتقل بيت العائلة من حي الأزهر إلى حي السكاكيني سنة 1917 اعتاد الأب أن يصحب الابن إلى قاعات العروض الفنية التي تنظمها جمعية محبي الفنون الجميلة، أو إلى قاعات خاصة بشارع إبراهيم باشا، كل هذا أكسب الطفل سعيد الصدر خبرات فنية في إبداع الألوان والتفريق بين درجاتها مع مراعاة التآلفات والتباينات الدقيقة، كما زودته بالقدرة على ابتكار النظم اللونية الفاتنة التي نراها على خزفياته كما أكسبته القدرة على الإحساس بالاستقرار والتوازن بين الكتلة والفراغ.وفي عام 1924 التحق سعيد الصدر بمدرسة الفنون والزخارف حيث درس الزخارف العربية والإسلامية بالإضافة إلى دراسة الطبيعة الحية والتجارة وتاريخ الفن إلى جانب زخرفة الأثاث والحفر على الخشب، وفي عام 1927 تولي إدارة المدرسة “جون إدني”، المهندس والمزخرف والمصور، وأعد خطة لإنشاء أقسام جديدة لفنون الزجاج والحديد والخزف عن طريق إرسال بعثات من الخريجين إلى أوروبا ليتخصصوا في كل هذه الفروع.وفي عام 1928 أنهى سعيد الصدر سنواته الأربع بمدرسة الفنون والزخارف وكان ترتيبه الأول كالعادة مما أهله للسفر إلى انجلترا لدراسة فن الخزف .


وضوح الرؤية

في مطلع يناير/ كانون الثاني سنة 1929 وصل سعيد الصدر إلى لندن حاملا آماله العريضة وأحلامه الوردية لتعلم فن الخزف ولكنه صدم حينما ألحقوه بمدرسة صغيرة بجوار لندن لا يرقى مستواها الأكاديمي عما درسه بمصر، فرفض هذه المدرسة وطلب تحويله إلى معهد “كمبرويل” حسب توصية “جون إدني”، ناظر مدرسة الفنون والزخارف بالقاهرة، ونجح سعيد الصدر في تحديد المنطلق الذي يبدأ منه في انجلترا، وهناك قضى عامين كاملين في العمل الجاد بذلك المعهد، يعمل اثنتي عشرة ساعة يوميا طوال خمسة أيام في الأسبوع أما السبت والأحد فيقضيهما بين المتاحف والمعارض ومراكز الندوات الثقافية والمحاضرات بالإضافة إلى ممارسة الرسم والتصوير الفوتوغرافي، وفي المساء إلى قاعات الموسيقا حيث يمتع روحه بالسيمفونيات الكلاسيكية.كما التحق بورشة “برنارد ليتش”، أبو الخزف الإنجليزي، على نفقته الخاصة، وقد حرص الصدر أن ينضم إلى تلاميذ “ليتش” إذ كان متطلعا إلى أهداف رفيعة يود أن يحققها في أقصر وقت ليعود إلى أرض الوطن بحصيلة من العلم والتجربة تمكنه من أن يبدأ مسيرة الخزف المصري.فقد كانت شخصية “ليتش” محببة وجذابة، شأن كبار الفنانين، بدأ حياته الخزفية في الشرق الأقصى، فدرس فنون الصين واليابان ووضع عدة مراجع عن فن الخزف، وكان سعيد الصدر مبهورا بشخصية ذلك الأستاذ الساحر، فاختلس النظر إلى طريقة إبداعه وحاول أن يقلده، الأمر الذي أفزع الأستاذ وأثار غضبه وقال له لا تقلدني تقليدا أعمى، اذهب إلى فنونكم وانظر إليها من جذورها، اذهب إلى المتحف الإسلامي وتأمل ما فيه من روائع.تلك كانت البداية لاكتشاف الصدر حقيقة الخزف الإسلامي بعد أن طمسه الظلام العثماني منذ ثلاثة قرون، فقد تبين لسعيد الصدر كيف عبر الفنان المسلم عن خلود الروح والتصوف والسمو والتغلب على مادية المادة وكيف تحول الطين بين يدي الخزاف المسلم، إلى ذهب وفضة ونحاس وبرونز ومعادن لم ترها عين من قبل، حين استطاع أن يكسوها بألوانها المعدنية، فقد درس الصدر الخزف الإسلامي وأساليبه المائة والخمسين بالإضافة إلى أسرار اللمسة اللونية الزخرفية والتي انعكست على أواني الصدر.وكانت المرة الأولى والأخيرة التي قلد فيها الصدر فنانا آخر، فقد أصبح “ليتش” صاحب الأثر العميق في حياة “سعيد الصدر” علما وعملا وأسلوبا، وظلت علاقته بأستاذه متصلة حتى بعد عودته للقاهرة وعمله أستاذا بكلية الفنون التطبيقية، يرسل له تقارير عن تجاربه وأبحاثه، فقد حرص “الصدر” منذ يومه الأول في “معهد كيمبرويل” على تدوين المذكرات التفصيلية عن الأبحاث والتجارب وكل ما يتعلق بالعملية الإبداعية، ساعده في ما بعد في وضع سبعة مؤلفات في فن الخزف، بالإضافة إلى ترجمة لكتاب مرجعي بعنوان “الخزفيات للفنان” لمؤلفه ف. ه، نورتن الإنجليزي استغرق عاماً ونصف العام من الجهد المتواصل، ومن مؤلفاته أيضا: “المعارف العمومية” سنة ،1948 و”الخزف والأشغال اليدوية” و”الخزف والاشتراكية” الذي ضمنه تجربته في مركز الخزف الذي كلفته وزارة الثقافة بإنشائه والإشراف عليه سنة ،1960 وهو المركز الذي أقيم بين أطلال الفسطاط وظل يشع تعاليم “الصدر” بين صبية الفخزانية هناك طوال ثلاث سنوات، كما أصدر كتاب “الفن التطبيقي في مصر” وهو يتناول فنونا أخرى مع فن الخزف، ثم “الخزف والألوان المعدنية”.


صاحب الرسالة

إن ما أسهم به “سعيد الصدر” في فن الخزف، ليس إحياء محليا بل إضافة عالمية إنسانية، وإدراكه لهذه الحقيقة حفظ عليه حماسه واستمراره عشرات السنين، فهو يشعر دائما بأنه صاحب رسالة للقرن العشرين عليه أن ينجزها.فقد فاز بالجائزة الأولى على خزافي العالم في المعرض الذي أقامته المنظمة الدولية للخزف في مدينة “كان” بفرنسا سنة ،1952 وبالجائزة الأولى والميدالية الذهبية على خزافي العالم مرة أخرى في المعرض الذي أقامته نفس المنظمة في براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا سنة 1962.كما سافر إلى كانيبرا بأستراليا ليدرس لطلبتها برنامجا عن خزف الشرق الأوسط في العام الدراسي 73-74 وقد هيأوا له أثناء هذه الفترة ورشة خاصة مجهزة بالخامات والأدوات والمعدات يجري فيها تجاربه ويبدع أوانيه الجديدة.ومهما طال الزمن ومهما تقدمت الصناعة والتكنولوجيا سيبقى ذلك الحد الفاصل بين الجمال الآلي والجمال اليدوي، بين فن الكمبيوتر وفن الإنسان، بين فن القطعة الواحدة، وفن الإنتاج العريض.سيبقى دائماً هذا الفارق بين خزف القوالب وأفران الكهرباء والخزف الإبداعي الذي يولد بين راحتي الفنان “سعيد الصدر”، أو غيره من خزافي العالم قديماً وحديثاً.



_-_-_-_-_-_-_-_- -_-_-_-_-_-_-_-_-_- _-_-_-_-_-_-_-_-_-



سيرته الذاتية

فنان تشكيلى لقب بعدد من الألقاب مثل شيخ الخزافين ـ ساحر الأوانى.

ولد في 13 يناير عام 1909، بحي الجمالية
المؤهلات العلمية: - التحق بمدرسة السلحدار الابتدائية عام 1918. - التحق بمدرسة فاروق الثانوية عام 1922. - التحق بمدرسة الفنون والزخارف بالحمزاوى عام 1924. - حصل على دبلوم أساتذة الرسم من مدرسة كمبرول بلندن 1931. - تتلمذ على يد أستاذ الخزف برنارد ليتش فى لندن. ‏
التدرج الوظيفى: - مدرس للرسم بمدرسة أسوان الصناعية عام 1928. - مدرس للخزف بمدرسة الفنون التطبيقية عام 1931. - انتدب للتفتيش على أقسام الخزف بالمعاهد الفنية عام 1940. - انتدب لتدريس الخزف لمدرسى التربية الفنية عام 1950. - انتدب للتدريس لأعضاء البعثة السودانية عام 1951. - انتدب للتدريس فى كلية المعلمين عام 1957. - انتدب للتدريس فى كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1958. - عمل وكيلا ثم عميدا لكلية الفنون التطبيقية فى الفترة من عام 1960 إلى 1965. - انتدب للتدريس فى الجامعة الأمريكية عام 1966.
الهيئات التى ينتمى إليها: - عضو مجلس إدارة البحوث والمشروعات التابعة لوزارة التعليم. - عضو لجنة المقتنيات للفنون التشكيلية بوزارة الثقافة. - عضو لجنة التفرغ بوزارة الثقافة. - عضو خارجى فى مجلس إدارة كلية الفنون التطبيقية. - عضو مجلس إدارة جمعية محبى الفنون الجميلة. - عضو زميل فى الأكاديمية الدولية بمدينة جنيف بسويسرا. - عضو لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية.
أعماله الفنية: - قام بإنشاء متحف الفن التطبيقى بكلية الفنون التطبيقية بالقاهرة عام 1940. - إنشاء مركز الفخار والخزف التابع لوزارة الثقافة فى مدينـة الفسطاط القديمة لتنمية مواهب الفنانين الشعبيين المشتغلين بهذا الفن عام 1960. - إنشاء قسم الخزف بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية. - بناء العديد من أفران إنضاج الخزف من بينها أول فرن تشغيل بالكهرباء. - ترميم القصور الأثرية "القلعة والمانسترلى وشبرا". - ترميم قصر الجوهرة، واستنقرق منه تسع سنوات من العمل المتواصل. - أعـد لوحات النحت بمدخلى حديقة الحيوان بالجيزة هيئة التصنيع بالقاهرة. - أنشأ أستوديو خاص به لفن الخزف بمصر القديمة فى عام 1965. - كما أشرف على الدراسات العليا فى مادة الخزف بكلية الفنون التطبيقية للماجستير والدكتوراه. - يقتنى أعماله عدد كبير من المتاحف المحلية والخارجية كمتحف الفن الحديث، ومتحف محمد محمود خليل والمتحف الزراعى بمصر ، كمـا توجد له أعمال فى متاحف إيطاليا، وتشيكوسلوفاكيا، وروسيا، وأستراليا.
المؤتمرات التى شارك فيها: - مثل مصر فى المؤتمرات والمعارض الدولية التى أقيمت فى كل من: إنجلترا، الصين، بلجيكا، إيطاليا، بلغاريا، تشيكوسلوفاكيا، ألمانيا، هولندا، روسيا، اليابان، الهند. - سافر إلى أستراليا حيث أقام معرضين لمنتجاته الخزفية بمدينة سيـدنى عام 1974.
مؤلفاته العلمية: - الخزف، عام 1948. - الخزف والأشغال اليدوية، عام 1950. - مدينة الفخار، عام 1960. - الخزف والاشتراكية، عام 1962. - مائة سؤال وإجاباتها عن الخزف، عام 1968. - أنا وابنتى، عام 1975. - الألوان المعدنية فى العصر الإسلامى، عام 1976. - خزفيات الفسطاط "بالإنجليزية". له أكثر من عشرين بحثًا نشر تباعا ابتداء من 1969 بمجلة منبر الإسلام.
الجوائز والأوسمة: - دبلوم من المعرض الدولى بباريس، عام 1931. - دبلوم مع مرتبة الشرف من الأكاديمية الدولية بجنيف، عام 1953. - دبلوم مع مرتبة الشرف من معرض الفنون التطبيقية فى إيطاليا، عام 1950. - شهادة تقدير من المهرجان الآسيوى ـ الأفريقى، عام 1956. - الميدالية الذهبية، الجائزة الأولى من تشيكوسلوفاكيا، عام 1962. - شهادة تقدير من جمعية محبى الفنون الجميلة بالقاهرة، عام 1963. - دبلوم من المعرض الدولى لفن الخزف من إيطاليا، عام 1966. - جائزة الدولة التقديرية فى الفنون من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، عام 1979.



_-_-_-_-_-_-_-_-_- -_-_-_-_-_-_-_-_-_- _-_-_-_-_-_-_-_-_-



حول رؤية الفنان

- كان الصدر ينشر العلم والجمال حوله أينما ذهب ولم يبخل بشئ على تلاميذه وحوارييه لكنه لم يستطع أن يمنح أحد العبقرية التى لا يهبها إلا الله ، إن المعرفة وحدها لاتكفى لامتلاك ناصية الإبداع مهما أنعم الله على الفنان من موهبة إذ عليه ان يتأسى بحياة الصدر وكيف خاض طريق الآلام وواصل الليل بالنهار حتى اكتسب المهارات الضرورية وسيطر على أدواته من خامات وافران والقرص الدوار الذى بدونه لاتكون الأوانى ، وقد علم الصدر منذ وضع قدميه على الجزر البريطانية سنة 1929 - أنه يجب عليه أن يتدرب عليه يوميا، كما يتدرب الموسيقيون على الآتهم والشعراء والأدباء على وسائل إبداعهم .- كان حين يجلس إلى القرص الدوار - أو الحجر كما يسميه أهل الصنعة - كأنه عواد يحتضن أوتاره ويذوب معها بكل خياله وكيانه العصبى والنفسى والوجدانى ، لو أننا تأملنا يديه وهما تشكلان كتلة الصلصال ، لآمنا إيمان الرؤية بأن الإنسان خلق من طين فالصلصال يتحول بين راحتيه وأصابعه إلى كائن حى ينبض ويتحرك ويتشكل ويوشك أن ينطق ولو راقبنا قدميه تدفعان القرص الأسفل فى توافق مثير مع اليدين لرأينا معزوفة موسيقية وأدركنا أن الموسيقى فن يرى ، كان يردد دائما :( إن فنان الآنية بعد أن يتحلى بنعمة الموهبة ، عليه أن يحصل العلم ويجرى التجارب ، ويدون القراءات ويسجل الملاحظات ويراقب النيران ويدرس هندسة الأفران وأنواع الطينات والألوان ومختلف الأساليب التراثية : المحلية والعالمية ، ويهب حياته للفن الذى كتب عليه أن يخوض بحاره هكذا ضرب المثل منذ أرسلته الدولة فى بعثة الى لندن طوال أربع سنوات أنهاها فى ثلاث فقط . كان خلالها يستورد الطين الأسوانى من مصر حتى يعلم خامات بلاده ويتعرف على إمكاناتها وخصائصها ، كلما أنهى تجربة أرسل نتائجها من لندن الى مصلحة الكيماء بالقاهرة، لتضع عنها تقريرا فنياً يسترشد به فى تجاربه التالية وحين ألحوا عليه فى لندن أن يستمر سنة رابعة ، رفض وآثر أن يعود أدراجه الى أرض الوطن ليبدأ البعث العظيم ، و يشعل النور فى عالم الآنية الفنية الجمالية المنزهة عن الغرض . وما لبثت تعاليمه أن ذاعت فى ربوع العالم العربى وتحول الى فن متاحف و معارض محلية ودولية ، بعد أن كان مجرد استنساخ للقوالب الفرنسية ، أو النقل الرخيص للزخارف العربية البسيطة فى مصنع سورناجا ، أو مصنع الهدى فيما بعد ، الذى كان يكتفى بزخرفة أوانى الفخار التى يجلبها من المصنع اليونانى المجاور فى حى روض الفرج .- كان الصدر ضمن اللجنة التى قررت حوالى عام 1933، عدم جدوى مصنع الهدى و نصحت بهدمه .- حاولت هدى شعراوى ان تسند اليه إدارة مصنعها بمجرد عودته من الخارج ، لكنه رفض شروطها المقيدة لحريته وعدم استجابتها للتعديلات الفنية الضرورية التى اقترحها ، وإصرارها على الطابع التجارى للإنتاج بوصفها صاحبة رأس المال . هكذا رفض الوضع المتدنى لفن الآنية الخزفية وبدأ المسيرة وحيداً بلا كلل أو ملل ، مستنداً إلى علمه و موهبته وشبابه و جسده القوى .كان يسكن حى السكاكينى بالقاهرة فى مطلع حياته الزوجية يترك فراشه الدافئ فى عز الشتاء قرابة العشرة كيلومترات، حتى يصل الى مدرسة الفنون التطبيقية بالجيزة،حيث يتابع أوانيه وهى تنضج داخل الأفران التى صممها وأقامها هناك ، ما لبث ان اكتسب حاسة خاصة بالموهوبين من الخزافين ، يستطيع بها أن يدرك ساعة النضج وموعد إخماد النيران والوقت المناسب لفتح الأفران . عاش يحلم بحركة فنية جمالية، تخرج بفن الآنية عن الاستخدام المادى التطبيقى ، كأداة لعرض الزهور أو حفظ الطعام والشراب .- أراد أن يبث روح الجمال ويشيعها فى فن الآنية فأهاب بوزارة الثقافة أن تنشئ مركزاً للخزف فى قلب مدينة الفسطاط القديمة وبين أطلالها التى عاصرت أمجاد (سعد ومسلم وشيوخ الصنعة) استهدف المتعة الجمالية وتلبية احتياج الانسان المصرى والعربى إلى الروح الشرقية التى تشبع النزوع الفكرى إلى النكهة المحلية والحداثة والإنتماء ، قام المركز كالمنارة بين الفواخير التقليدية والقمائن التى تزود الجماهير بالقلل والأباريق والأزيار والمواجير والمواسير ، بين هؤلاء الحرفيين الذين ورثوا سر الصنعة عن الآباء والأجداد منذ مئات السنين كان سعيداً بصحبتهم واستشاروه فى كل صغيرة وكبيرة كما تعلم منهم أسرار الأفران الشعبية العملاقة المعروفة بالقمائن ، التف حوله شباب الفخرانية من أبناء هؤلاء المعلمين وبدأت تنتشر اللمسات الفنية على بعض الأوانى الشعبية هناك منذ عام 1964 وبدأ الاستاذ أعظم تجاربه على البريق المعدنى حتى وصل به الى مستويات رفيعة وتعتبر تلك السنوات اكثر مراحل حياته خصوبة وإبداعأًلكى نقترب من القيمة التاريخية للإجازات الفنية لسعيد الصدر نبدأ باضافته للتراث الإسلامى الخزفى الذى هز العالم بزخارفه وألوانه وبريقه المعدنى وأساليبه التنفيذية التى زادت على المائة والخمسين أسلوبا معظمها مازال أسراراً مدفونة تنتظر الباحثين أصحاب الرسالات العلمية من الماجستير والدكتوراه لينسجوا على منوال العبقرى الراحل الذى أزاح الستار عن عشرة فى المائة فقط من تلك الأساليب أثناء مشوار حياته وابتكر بدوره أساليب جديدة غير مسبوقة منها الزخرفة بالبريق المعدنى على خلفية فيروزى أو خلفية سوداء كما سبقت الإشارة ، ومن الجدير بالتأكيد أنه لم يستخدم فى إبداعه المستمر من البداية للنهاية سوى الخامات المحلية المستخرجة من أرض بلادنا متغاضيا تماماً عن الخامات المستوردة مما يشكل بعداً هاماً فى النكهة المحلية الجمالية التى تكسو أوانيه لم يستخدم خامات غير محلية سوى فترات قصيرة أثناء دراسته فى لندن وكان عمره لا يتجاوز التاسعة عشرة إلا حين كان يتأخر وصول الطين الأسوانى من مصر - لا توجد فى متاحف العالم آنية فنية ثانية سوداء بالبريق المعدنى عن طريق الاختزال ، وأسلوب سعيد الصدر فى فن الآنية الخزفية والبريق المعدنى هو أول أسلوب مصرى إسلامى معاصر ظهر بعد قرون الظلام الطويلة منذ غزو العثمانيين لبلادنا والقضاء على الحركة الفنية التى كانت مزدهرة وشحن الحرفيين والفنانين الى اسطنبول وتوقف خمسين حرفة على الفور من بينها فن الآنية الخزفية بعد إخماد نيران أفران الفسطاط وإستيراد ترابيع القيشانى من مصانع كوتاهية بتركيا .- بدأ الصدر أولى تجاربه على البريق المعدنى فى معهد كمبرويل أثناء بعثته الى إنجلترا كنوع من الاجتهاد الشخصى لا علاقة له بالدراسة الرسمية ، قراءته المتشعبة وجولاته فى المتاحف علقت أنفاسه بذلك الأسلوب الإسلامى الساحر الذى يترجم شيئا من جوهر الدين الحنيف لم تكن أفران معهد كمبرويل الثلاثة معدة لإنجاز عمليات اختزال ، حاول حينذاك ترشيد أدائها ، حتى يناسب الهدف الذى يسعى الى تحقيقه صنع إناءً فخارياً طويل العنق تنتظم على جسمه الثقوب ، أدخله فى الفرن مع الآوانى ذات الطلاءات المعدنية مع الاحتفاظ بالفوهة خارج الباب ، عندما بلغت الحرارة درجة الاختزال أسقط فى الفوهة كمية من نشارة الخشب تسرب دخانها من الثقوب الى داخل الفرن وتحقق الاختزال ونجحت أول تجاربه فمضى ينميها ويطورها ويدرسها نظريا ، بدأ من يومها تدوين مذكراته وما زال يتابعها حتى أخر أيامه وهى محفوظة داخل حقيبة خاصة فى بيته الذى يقطنه بشارع الدقى بالقاهرة تنتظر الباحثين الجادين الراغبين فى استئناف المسيرة .عشرات الكراسات تضم بين دفاتها كنزا من المعارف الجديدة تنتظر النشر بواسطة هيئة ثقافية واعية بدورها الحضارى الإنسانى وبدور العبقرى الذى عاش بيننا وأضاف الى فن الآنية العالمى مزيداً من الأشكال الجمالية والمضامين الروحية من أروع نماذج البريق المعدنى: آنية على شكل زجاجة قطرها أربعون سنتيمترا وارتفعها بالعنق يناهز السبعين أبدعها على القرص الدوار بعد انضاجها وتحويلها الى فخار كساها باللون الأسود ثم الطلاء شفاف قلوى القاعدة أحرقها بعدئذ فى درجة حرارة قدرها الف مئوية ثم أعد مزيجاً من أكسيد النحاس رسم به التصميمات والزخارف المناسبة فوق الطلاء الزجاجى القلوى وضعها فى الفرن للمرة الثالثة فى درجة حرارة هادئة قدرها 650 مئوية ليتم الاختزال ثم غسلها جيدا بالماء بعد اخراجها فاكتمل بهاؤها الى هذا الحد المذهل غير المسبوق فى تاريخ فن الآنية الخزفية .- تمكن الصدر باضافاته الى أساليب البريق المعدنى من الحصول على قيم جمالية وتعميق المضمون الإنسانى والاتجاه بالآنية الى آفاق أكثر درامية فإذا نظرنا الى البريق النحاسى على أرضية نشعر بجدية الحياة وصلابتها لو لم يكن سعيد الصدر رائدا لفن الآنية وتكنولوجيا الخزف الحديث لكان رائدا لفن لرسم والتلوين المائى والزيتى لكنه انصرف الى فن الآنية الخزفية قرابة النصف قرن من الزمان حتى نال المرض من جسده القوى المتين وأقعده عن العمل على الدولاب الدوار الذى هو سداة هذا الفن ولحمته لأن الآنية فى رأيه فورم فى التحليل النهائى ، ولا فورم بلا دولاب دوار يديره الفنان بيديه وقدميه وعقله وجسده وبكل كيانه النفسى والوجدانى حين غشيه المرض سنة 1981 وفقدت يده اليسرى كفاءتها، استيقظت فى داخله موهبته القديمة التى استهل بها حياته بعد تخرجه فى مدرسة الفنون بعد تخرجه فى مدرسة الفنون والزخارف بالحمزواى سنة 1929 عمل مدرساً فى مدرسة بمدينة أسوان ، حينذاك كان يقضى أوقات فراغه جميعا رساماً ملوناً على شاطئ النيل هكذا عاد الى الرسم والتلوين الزيتى فى أواخر أيامه من حيث انتهى الآخرون وكانت اللوحات الستون التى عرضها قبيل رحيله عن دنيانا تصور شريط ذكرياته عن الحياة الشعبية فى حى الأزهر وسيدنا الحسين والجمالية حيث ولد ونشأ وترعرع وطالما راقب فى طفولته الباكرة زيارات يوسف كامل - رائد فن الرسم والتلوين - لوالده حامد أفندى الصدر الذى كان يهوى التصوير الفوتوغرافى ويعير بعض المناظر لصديقه ليعيد تلوينها بالزيت أو الباستيل .عاش سعيد الصدر بعبقريته حياة مفعمة بالتحصيل والتفكير والإبداع حتى أصبح بحق واحداً من رواد الجيل الأول للحركة الفنية التشكيلية الحديثة يقف كتفا بكتف مع صاحب نصب نهضة مصر من حيث أن كلا منهما قد أحيا فنا عظيما بعد غياب طويل .


الناقد / مختار العطار
من هنا وهناك

هناك تعليق واحد:

  1. مشاء دمت فخر ودخر لنا
    لكن انااريد مساعدتك فى تقنيات خزف الراكو ارجوك ساعدنى
    لان هدا موضوع دراستى

    ردحذف